ابن سينا: الطبيب الفيلسوف والعالم الوسوعي
(370-428هـ/980-1036م)
هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا الملقب بالشيخ الرئيس، ولد في صفر (370هـ 980م) من أسرة فارسية الأصل في قرية أفشنة من أعمال بخاري في ربوع الدولة السامانية.
عرف ابن سينا بألقاب كثيرة، منها: حجة الحق، شرف الملك، الشيخ الرئيس، الحكم الدستور، المعلم الثالث، الوزير.
نشأته:
كان والده وأخوه ممن استجابوا لدعاة الإسماعيلية، ولكن ابن سينا لم يقبل هذا المذهب، بل رفضه كما في قوله: "وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسي".
استظهر القرآن وألمّ بعلم النحو وهو في العاشرة من عمره، رغب ابن سينا في دراسة الطبّ، فعكف على قراءة الكتب الطبية، وبرز في هذا العلم في مدة قصيرة، وهذا ما أكّده بقوله: "وعلمُ الطبِّ ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أني برزت فيه في أقلّ مدة". وكان عمره في ذلك الوقت ست عشرة سنة، ودرس على يد ابن سهل المسيمي وأبي المنصور الحسن بن نوح القمري.
كانت بدايات دراسته الفلسفية والمنطقية على يد عبد الله النائلي الذي كان يسمى بالمتفلسف، ويبدو أنه لم يكن متعمّقاً في علمه، فانصرف عنه ابن سينا بعد فترة وجيزة، وبدأ يقرأ بنفسه، ولكنه وجد صعوبة في دراستهما، فبذل وقتاً طويلاً كي يفهمهما جيداً، إذ يقول: "ثم توفّرت على العلم والقراءة، فأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة، وفي هذه المدّة، ما نمت ليلة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهوراً".
كان قد عصي عليه فهم كتاب ما بعد الطبيعة حتى قرأه أربعين مرة، فيئس من فهمه، ولكن معضلته هذه انفكت عندما قرأ كتاب الفارابي في أغراض ما بعد الطبيعة.
وعاش ابن سينا في خضمّ ظروف عاصفة ومليئة بالاضطرابات والتقلّبات السياسية، حيث عاش فترة انحطاط الدولة العباسية، في عهود الخلفاء الطائع والقادر والقائم وغيرهم، وهذا ما جعل البلاد نهباً للطامعين من كل حدب وصوب، فاقتطعت من البلاد مناطق كثيرة، وأقيمت فيها دويلات متخاصمة ومتناحرة فيما بينها.
ولم تقتصر حالة الوهن على هذه الأطراف، بل وصلت إلى مركز الخلافة، حيث سيطر على الملك في بغداد، وأصبح الخليفة ألعوبة بيدهم، وبلغت حالة الضعف هذه ذروتها مع سقوط الدولة البويهية وقيام الدولة السلجوقية بزعامة طغرلبك.
كان ابن سينا إذا تحير في مسألة ولم يجد حلاً لها مسألة، ولم يكن يظفر بالحدّ الأوسط في قياس، كان كما يقول: "ترددت إلى المسجد وصلّيت وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المغلق، وتيسّر المعسر".
وينسب إليه أيضاً أنه كان يقول: "وكنت أرجع ليلاً إلى داري وأضع السراج بين يدي وأشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليّ قوتي، ثم أرجع إلى القراءة".
أفاد ابن سينا من نبوغه المبكر في الطبّ، فعالج المرضى حباً للخير واستفادة بالعلم، وليس من أجل التكسّب، وفتحت له الأبواب على أثر معالجته لمنصور بن نوح الساماني من مرض عجز الأطباء عن شفائه منه، فقرّبه إليه، وفتح له أبواب مكتبته التي كانت تزخر بنفائس الكتب والمجلّدات والمخطوطات، فأقبل عليها يقرأها كتاباً بعد كتاب.
ثم لقي رعاية وافية من قبل نوح بن منصور الساماني الذي خلف والده في الحكم، ما جعل ابن سينا يعيش حالةً من الاستقرار النفسي انعكس إيجاباً على نتاجه، فتبوّأ مكاناً مرموقاً من العلم، ولا سيّما في علم الطب وعلم النفس، وقد أضاف الكثير إلى هذه العلوم مما استحدث عنده، وقد كتب في الطبيعيات والهندسة والرياضيات والكيمياء وغيرها من الاختصاصات، مثل "كتاب المختصر الأوسط في المنطق"، و "المبدأ والمعاد"، وكتاب "الأرصاد الفلكية" و"القانون"، ولكن حدثت بعد ذلك اضطرابات توارى على أثرها عند صديق له يدعى ابن غالب العطّار، فصنّف جميع الطبيعيّات والإلهيات ما خلا كتاب الحيوان والنبات.. وابتدأ بالمنطق، وكتب جزءاً منه، ثم أودع السجن وبقي مسجوناً في قلعة "نردوان" أربعة أشهر كتب فيها كتاب الهداية.
كانت شخصيته شخصيةً جادّةً تقبل التحدّي وتغوص في عمق المسائل، فعلى أثر محاورة حصلت بينه وبين رجل اللغة "أبو منصور الجبائي" يومئ فيها إلى هنات في علوم اللغة عند ابن سينا، عكف على دراسة اللغة ثلاث سنوات كاملة، فبلغ جراء ذلك مرتبة عظيمة في اللغة، وأنشأ ثلاث قصائد ضمّنها ألفاظاً غريبة من اللغة.
اشتغل الشيخ الرئيس بعلم الأرصاد ثماني سنوات، وقد حاول في دراساته هذه الوقوف على ما كتب بطليموس، وكتب كتاب الإنصاف في الأرصاد في وقت قياسي.
إنجازاته الطبية
اعتمد ابن سينا في الطبّ على الملاحظة في وصفه للعضو المريض وصفاً تشريحيا" وفيزيولوجياً، واستفاد من هذا الوصف التشريحي في تشخيص المرض.
اعتمد في ممارسته الطبية على التجربة والاستفادة من تجارب من سبقوه، وهو أول من قال بالعدوى وانتقال الأمراض المعدية عن طريق الماء والتراب، وبخاصة عدوى السل الرئوي.
وهو أوَّل من وصف التهاب السحايا، وأظهر الفرق بين التهاب الحجاب الفاصل بين الرئتين والتهاب ذات الجنب.
وهو أوَّل من اكتشف الدودة المستديرة أو دودة الإنكلستوما قبل الطبيب الإيطالي روبنتي بأكثر من ثمانمائة سنة.
وهو أوَّل من اكتشف الفرق بين إصابة اليرقان الناتج من انحلال كريات الدم، وإصابة اليرقان الناتج من انسداد القنوات الصفراوية.
وهو أوَّل من وصف مرض الجمرة الخبيثة وسماها النار المقدسة.
وأوَّل من تحدَّث وبشكل دقيق عن السكتة الدماغية، أو ما يسمى بالموت الفجائي.
ومن بين إنجازات ابن سينا وإبداعاته العلمية، اكتشافه لبعض العقاقير المنشّطة لحركة القلب.
واكتشافه لأنواع من المرقدات أو المخدّرات التي يجب أن تعطى للمرضى قبل إجراء العمليّات الجراحية لهم تخفيفاً لما يعانونه من ألم أثناء الجراحات وبعدها.
وابن سينا هو الذي اكتشف الزرقة التي تعطى للمرضى تحت الجلد لدفع الدواء منها إلى أجسام المرضى.
كذلك وصف ابن سينا الالتهابات والاضطرابات الجلدية بشكل دقيق في كتابه الطبي الضخم "القانون"، وفي هذا الكتاب وصف ابن سينا الأمراض الجنسية وأحسن بحثها، وقد شخَّص حمّى النفاس التي تصيب النساء، وتوصَّل إلى أنها تنتج من تعفن الرحم.
وكان أحد أوائل العلماء المسلمين الذين اهتموا بالعلاج النفسي، وبرصد أثر هذا العلاج على الآلام العصبية وآلام مرض العشق خاصةً، وقد مارس ابن سينا ما اهتدى إليه من علاجات وطبّقه على كثير من المرضى.
وفي علم الطبيعة، اكتشف ابن سينا أن الرؤية أو الضوء سابقة على الصوت كضوء البرق مثلاً يسبق صوت الرعد، فنحن نرى ومض برقه ثم نسمع صوته.
كذلك تكلم ابن سينا عن أن هناك علاقة بين السمع وتموّج الهواء، فلولا هذا التموّج لما كان هناك انتقال للصوت، ولا استماع له.
ولقد اخترع ابن سينا آلة تشبه آلة الورنير التي تستعمل في زماننا لقياس أصغر وحدة من أقسام المسطرة لقياس الأطوال بدقة متناهية.
كان طبيب عصره الأوَّل والماهر، ولما ترجمت كتبه أصبح طبيباً عالمياً وعلى مدى أربعمائة عام.
من أشهر كتبه في الطب "القانون"، الذي أصبح أحد مراجع جامعات أوروبا الأساسية، حتى إنه درِّس في جامعتي "مونبليه" و"لوفان" إلى نهاية القرن السابع عشر. وكان هذا الكتاب مع صاحبه كتاب "المنصوري" للرازي، مرجعاً أساسياً يدرَّس في جامعتي فيينا وفرانكفورت طوال القرن السادس عشر.
وقد اجتمعت لكتاب "القانون" مزايا التحري والاستقصاء، والإحاطة والتنسيق، فاشتمل على أصول الطب وفروعه، من شرح للأعراض، إلى وصف للعلاج، وإعداد قوائم بأسماء العقاقير ومواطن الجراحات وأدواتها.
ولما اتصلت الكيمياء بالطب والعقاقير ومكوناتها فقد كان لابن سينا دور رائد في هذا العلم الدقيق، فاهتمَّ بالمعادن اهتمام صاحبه جابر بن حيان، وسلك مسلكه في تكوين المعادن.
قام بصنعة العقاقير والأدوية، وقد أشار في هذا الصدد إلى عدد كبير من العمليات الكيماوية، كالتقطير والترشيح والتصعيد والاستخلاص والتشميع، وكان له أجهزته ومعامله، شأنه شأن علماء الكيمياء مثل الرازي وغيره.
آراء ابن سينا التربوية
لابن سينا آراء تربوية وردت في العديد من كتبه التي كتبها بالعربية والفارسية، غير أن أكثر آرائه التربوية نجدها في رسالة مسمَّاة "كتاب السياسة"، وأبرز ما تميَّز به المذهب التربوي لابن سينا، هو أن التربية عنده لم تقتصر على مرحلة واحدة، وهي دخول الطفل المدرسة، بل شملت تربية الطفل منذ لحظة ولادته حتى زواجه وانخراطه في الحياة الاجتماعية، كما إنها لم ترتكز على جانب واحد أو بعض جوانب الشخصية الإنسانية لتهمل الجوانب الأخرى، بل اهتمَّت بوحدة الشخصية الإنسانية وتكاملها العقلي والجسدي والانفعالي.
تأثَّرت التربية السيناوية بتعاليم الدين الإسلامي، وبخاصة القرآن الكريم والسنّة النبوية، وكذلك بالفلسفة اليونانية والهلنستية.
حرص ابن سينا على تدعيم آرائه بمبررات نفسانية، وقد نجح نجاحاً بعيداً في هذا الميدان، ما يحمل على الاعتقاد أن ذلك عائد إلى حد كبير إلى امتهانه مهنة الطب.
فلم ينس الاهتمام بالطفل منذ لحظة ولادته، حيث ركَّز على الاسم الجيد للمولود، لما له من انعكاسات على شخصية الطفل، كما ركز على دور الرضاعة من الأم.
أما مرحلة ما قبل المدرسة، فقد اعتبرها ابن سينا مرحلة ذهنية نخطَّط فيها شخصية الطفل المستقبلية، باعتبارها مرحلةً قابلةً لاكتساب جميع العادات والطباع السيئة والصالحة منها على حدٍّ سواء.
كما أنه يشجّع على التربية الرياضية، إذ يراها تربيةً ضروريةً وليست خاصة بمرحلة أو عمر معين، ولذلك فهو يجعلها متلائمة ومتناسبة مع كلِّ طورٍ من أطوار الحياة، ويرى أن سن السادسة هي العمر المناسب للطفل للبدء بالتعليم.
أما المنهج الذي يجب اتّباعه في التدريس، فيقول ابن سينا: "إذا اشتدت مفاصل الصبي، واستوى لسانه، وتهيأ للتلقين، ووعى سمعه، أخذ في تعلّم القرآن وصور حروف الهجاء، ولقِّن معالم الدين". أما في الأساليب والطرائق التعليمية، فقد راعى ابن سينا الفروق الفردية بين التلاميذ، وحض على التعلّم الجماعي، كما دعا إلى توجيه التلاميذ بحسب ميولهم ومواهبهم.
ركز ابن سينا على مبدأي الثواب والعقاب المعنويين وليس الماديين، ورأى أنه ينبغي مراعاة طبيعة المتعلم والعمل الذي أقدم عليه، ويجب أن تتدرَّج من الإعراض إلى الإيحاش، فالترهيب، فالتوبيخ. فالعقوبة عنده إرشادٌ وتوجيه سلوك وحرص على تعديله برفق، كما ويحرص على أن يكون الدافع من وراء العقاب ليس الانتقام والكراهية، بل حسن التربية والإخلاص في العمل.
أما بالنسبة إلى صفات المعلم، فيقول ابن سينا: "على مؤدِّب الصبي أن يكون بصيراً برياضة الأخلاق، حاذقاً بتخريج الصبيان"، حيث يجب على المعلم أن يكون عالماً بتعليم نفس الأمور بسن الطفولة والمراهقة، وأن يكون وقوراً ورزيناً، وذلك كما له من أثر مباشر على الطلاب، حيث إنه سيلازمه وهذا أول ما يستقر بطباعه.
وهكذا يكون ابن سينا قد وضع منهجاً تربوياً مستمدة دعائمه من الدين، ومن واقع عصره ومجتمعه، ليفي بمتطلبات مجتمعه ويساعده على النهوض والخلاص مما هو فيه من انحلال وفقدان للقيم، إنها تربية اجتماعية بكل معنى الكلمة، متعدّدة الجوانب: فردية، مجتمعية، أخلاقية، دينية، مهنية.
وهذا ما يجعل الشيخ الرئيس من أصحاب المذاهب التربوية الجديرة بالاهتمام والدراسة، وفي مذاهب هذا الفيلسوف من الآراء والنظريات العلمية ما يجعله جديراً بأن يمدّ الإنسانية بمعين لا ينضب من المعرفة، وما يتفرّع منه من تربية وسياسة وإصلاح بعد أن أمدّها بمعين من الفلسفة والطب.
ابن سينا في نتاجه:
كان ابن سينا من أعجب العبقريين، وأبلغ الكتّاب، فإنه على الرغم من تبعات المناصب وأسفاره إلى البلاد القصيّة، وفي مثار الحروب وثنايا الفتن الأهلية، تمكن من وضع كتب كثيرة ممتعة يكفي أحدها لتأسيس مجده، ووضعه في مصافّ كبار حكماء المشرق. وقد دوّن أكثر من مائة كتاب تتباين في الإتقان، ولكنها تشهد بفضله وإلمامه بسائر علوم عصره، وانكبابه على العمل في أحرج الأحوال. ومعظم تواليفه لا تزال محفوظة إلى يومنا هذا، وكثير من كتبه الكبرى، كالقانون والشفاء، ترجمت إلى اللاتينية، وطبعت عدة مرات.
فكتاب الشفاء، وهو من موسوعات العلوم ودوائر المعارف، في ثمانية عشر مجلداَ، محفوظة منها نسخة كاملة في جامعة أكسفورد، "والنجاة موجز الشفاء" وضعه الرئيس رغبةً في إرضاء بعض أصفيائه، وقد طبع الأصل العربي بعد "القانون" في روما عام 1593م، وهو في ثلاثة أقسام؛ المنطق والطبيعيات وما وراء الطبيعة، وليس يوجد فيه القسم الخاص بالعلوم الرياضية التي أشار إليها ابن سينا في فاتحة الكتاب، وقال بضرورة ذكرها في الوسط بين الطبيعيات وعلم ما وراء الطبيعية، وقد طبع الكتابان كاملين ومتفرقين مرات عدة باللاتينية، منها مجموعة طبعت في البندقية عام 1495م تشمل: المنطق، الطبيعيات، السماء والعالم، الروح، حياة الحيوان، فلسفة الفارابي على العقل، الفلسفة الأولى.
كما نقل "نافيه" منطق ابن سينا إلى الفرنسية ونشره في باريس عام 1658م، كذلك طبع العلامة "سمولدرز" أرجوزة لابن سينا في "مجموعة الفلسفة العربية". أما فلسفة ابن سينا فهي كفلسفة غيره من أتباع أرسطو لم تتميز في ما ضمته من تعاليم عمّا ضمته حكمة سواه من فلاسفة العرب. وقد ذكر ابن طفيل في كتابه "حيّ بن يقظان" أن ابن سينا، قال في فاتحة الشفاء إن الحقيقة في رأيه ليست في هذا التصنيف، وإن من يريدها فليلتمسها في كتاب الحكمة المشرقية، بيد أن هذا الكتاب لم يصل إلينا كما سبق وأشرنا.
لم يكن الشيخ في يوم من الأيام فاتر الهمّة في علمه، وإنما الأيام لا بد أن تنصرم، وقد أصاب جسده المرض واعتلّ، حتى قيل إنه كان يمرض أسبوعاً ويشفى أسبوعاً، وأكثر من تناول الأدوية، ولكنّ مرضه اشتدّ، وعلم أنه لا فائدة من العلاج، فأهمل نفسه وقال: "إن المدبر الذي في بدىء عجز عن تدبير بدني، فلا تنفعنّ المعالجة"، واغتسل وتاب، وتصدق بما لديه من مال للفقراء، وأعتق غلمانه طلباً للمغفرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق